28‏/06‏/2009

المشتقات المالية من منظور الشريعة الإسلامية - الجزء الثاني

ثمة العديد من الأدوات والعقود المالية الإسلامية التي يمكن اعتبارها أساسا للعقود الآجلة والعقود المستقبلية في صورتها التقليدية، أبرزها عقد الجعالة وعقد السلم وعقد الاستصناع. كما يمكن اللجوء إلى بيوع أخرى كبيع الوفاء وبيع الاستغلال.
رأينا أن عقد السلم يماثل العقد الآجل في الكثير من النواحي، ويلبي حاجة الأفراد والمشاريع إلى رأس المال العامل. وثمة إلى جانب السلم عقدان يقومان على أساس تأجيل التسليم، هما الجعالة والاستصناع. ففي الاستصناع تطلب صنعة ما هو غير موجود، حيث يتعاقد المشتري (المستصنع) مع البائع (الصانع) على إنتاج سلعة موصوفة، أو تأمينها عند أجل التسليم على أن تكون مادة الصنع وتكلفة العمل أو أحدهما من الصانع وذلك لقاء ثمن متفق عليه. ومع أنه يمكن لأي من الطرفين التحلل من التزامه قبل بدء العمل، إلا أنه لا يحق لأي من الطرفين منفرداً النكول بعد الشروع بالعمل. وبالمقابل - وعلى خلاف عقد السلم - لا يشترط أداء الثمن كاملاً عند التعاقد. كما يمكن اللجوء إلى مقابلة التزام بالتزام على طرف ثالث عبر الاستصناع الموازي، كما هو الحال في السلم. أما الجعالة، فهي باختصار: استصناع محله الخدمات، وليس السلع والمنتجات.

بيع الوفاء.. والاستغلاف
من البدائل الأخرى، بيع الوفاء الذي يجمع بين البيع والرهن، حيث يبيع أحد الطرفين إلى الآخر موجوداً، فيتعهد المشتري بإعادة بيع الموجود إلى المالك الأصلي في أجل مستقبلي مسمى. وينشأ عنصر الرهن هنا عن تعهد المشتري ببيع الموجود إلى مالكه، وليس إلى طرف ثالث. وبالتالي، فإن المعاملة تأخذ شكل اتفاقية إعادة الشراء (ريبو) باستثناء أن ثمن إعادة البيع ينبغي أن يكون مساوياً لثمن الشراء الأصلي. ويتمثل وجه الشبه بها في حق المشتري بالاستفادة من حيازة أو ملكية الموجود. أما بيع الاستغلال، فيجمع بين بيع الوفاء والإجارة، حيث يتعهد المشتري بإعادة بيع الموجود بثمن مستقبلي متفق عليه، وأن يؤجر العين للبائع في الفترة الفاصلة بين عمليتي الشراء والبيع. وعلى ذلك، فإن بيع الاستغلال يعد وسيلة مناسبة للمؤسسات المالية الإسلامية لتوفير السيولة على الأجلين القصير والمتوسط. ذلك أن المؤسسة تشتري العين بادئ الأمر ثم تؤجرها للعميل إلى أن تبيعها له في نهاية الأجل المضروب.

عقد الاستجرار
رأينا أن القبول الشرعي بالأداة الاستثمارية رهن بخلوها من الغرر والجهالة، وألا تكون مخاطرها معدومة في صورة ضمان العائد، وقد ظهرت مؤخراً أداةٌ استثمارية إسلامية مستحدثة تعرف بعقد الاستجرار. هذا النوع من العقود يتيح خيارات يمكن ممارستها عندما يتجاوز ثمن الموجود الذي تقوم عليه حدوداً أو مستويات معينة. ويتكون العقد من جملة من الخيارات ومتوسطات الأسعار والتمويل بالمرابحة. وهو عقد طرفاه: المشتري، الذي قد يكون مؤسسة تحتاج إلى التمويل لشراء موجود ما، والبائع، وهو مؤسسة مالية. فقد تسعى إحدى المؤسسات إلى تأمين حاجتها من رأس المال العامل على الأجل القصير لتمويل شراء سلعة ما (مواد أولية مثلاً) بأن تخاطب أحد المصارف. يعمل المصرف - بعد دراسة الطلب والموافقة عليه- على شراء السلعة بسعرها السوقي الحالي (س) وإعادة بيعها إلى المؤسسة، على أن تؤدي ثمنها في تاريخ مستقبلي يتفق عليه، وليكن ستة أشهر. أما الثمن الذي سيؤديه المشتري في تاريخ الاستحقاق، فيتوقف على التغير في ثمن الموجود بين تاريخ الشراء (س) وثمنه في تاريخ الاستحقاق (وليكن سَ). على خلاف المرابحة التي يكون فيها الثمن المؤدى محدداً مسبقاً على شكل نسبة تضاف إلى الثمن الأصلي، وتشكل العائد الذي يتوخاه المصرف، فإن الثمن في عقد الاستجرار قد يكون الثمن الأصلي (س) أو الثمن الوسطي للسلعة أو الموجود بين تاريخ الشراء وتاريخ الاستحقاق. ويتوقف اختيار الثمن الذي ستسوى به المعاملة على حركة الأسعار، وعلى الطرف الذي يختار تثبيت ثمن الوفاء. ويعبر الخيار المتاح في بيع الاستجرار عن الحق في اختيار تثبيت ثمن الوفاء في أي لحظة تسبق تاريخ الاستحقاق. ويتفق كلا الطرفين في تاريخ التعاقد، على ثمن المرابحة المحدد مسبقاً والحدين الأعلى والأدنى للثمن الأصلي (س)، وهو الثمن الذي اشترى به المصرف السلعة في تاريخ التعاقد. وبالتالي، فإن الأساس الذي يقوم عليه هذا العقد، إنما يتجلى في تعظيم الاستفادة من التغيرات السعرية المواتية لكلا الطرفين، فلا يكسب طرف على حساب خسارة الطرف الثاني.

هذا العقد يساعد الطرفين على تحاشي الوقوع في ما لا يقره الشرع، أي: تجنب تقديم عائد ثابت على أصل خال من المخاطرة، لأن ذلك ربا، بالإضافة إلى تحاشي الغرر، حيث إن الطرفين على معرفة تامة بالثمن الأصلي وبهامش الأثمان الأخرى الممكنة.

يعتبر عقد الاستجرار من مفرزات الهندسة المالية الإسلامية المعاصرة، وهو يتقاطع مع نتاجات الهندسة المالية التقليدية في جملة من العناصر، أهمها: التعقيدات التي تكتنف التعامل بها، والحدود السعرية الدنيا والعليا، ونقاط ممارسة الحق، وغيرها. فإذا كان السعر الفوري للأصل يقل عن الحد الأدنى، فإن المصرف يكون في وضعية خاسرة والمشتري في وضعية رابحة حتى تاريخ التنفيذ. وإذا كان السعر الفوري أكبر من الحد الأدنى أو يساويه، فإن سعر التسوية في تاريخ الاستحقاق يعادل السعر الوسطي خلال الفترة. أما إذا كان السعر الفوري يتجاوز الحد الأعلى، فإن المشتري يكون في وضعية خاسرة، ويكون المصرف في وضعية رابحة إلى حين التنفيذ.

حقوق الاختيار
ويرى معظم الفقهاء في الأدوات المشتقة التقليدية ما لا يلبي متطلبات الشريعة، خاصة وأن هذه الأدوات يتيسر استخدامها في المضاربة المحرمة، وهذا هو الداعي الأساسي لتحريمها. كما أن الحق فيها لا يقترن بالتزام، وإنما يكون تنفيذ الحق رهناً بما يقع في المستقبل. لكن نظرة المذاهب المختلفة لهذه الأدوات لا تزال متضاربة، حتى وإن أجمعت على تحريمها. ذلك أن الأساس الشرعي للتحريم يقوم على حجج متعارضة منطقياً بين مذهب وآخر.ويمكن مقابلة حقوق الاختيار - للوهلة الأولى- بمفهوم الخيار في عقود المبادلات. حيث يجوز لطرف أن يعطي الأطراف الأخرى الحق بممارسة أحد خيارين: فإما أن يؤكد العقد ويمضي في تنفيذه، أو أن يرى مصلحة في إلغائه وذلك ضمن فترة زمنية معينة يسري فيها هذا الخيار. وقد جاءت شرعية هذا النوع من العقود - على الرغم من منافاته الأولية لروح الشريعة التي تقضي بأن نفاذ العقد المشروع يبدأ بالإيجاب والقبول من كلا الطرفين- من أن هذا النمط من العقود القائمة على خيار الشرط يحقق للمجتمع منافع أعظم، انطلاقاً من أنها توفر للمتعاقدين الفرصة لإعادة تقويم مصالحهم ضمن المدة المسماة لكي يتسنى لهم الوصول إلى قرار رشيد مبني على دراسة أوسع وإلمام أكبر بحيثيات التعاقد وما يترتب عليه. ومن هنا، يمكن الحد من فرص التنازع بين المتعاقدين طالما أن قراراتهم إنما اتخذت بروية وتدبر ودراسة وافية. وفي ذلك حد من الغرر الذي قد يكتنف محل عقد المبادلة أو ثمنه. وعليه، فإن الخيار في الشريعة الإسلامية يأتي في صور متعددة أبرزها: خيار الشرط وخيار المجلس وخيار العيب وخيار التعيين وخيار الرؤية. ويعتبر خيار الشرط أكثرها فرصاً في مواءمة الهندسة المالية المعاصرة واستنباط عقود جديدة يمكن بها إدارة عنصر المخاطرة في المؤسسات المالية الإسلامية.

المصدر: مجموعة المستثمرون

ليست هناك تعليقات: